سورة الحجرات - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} فيه أربع مسائل:
الأولى:: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} قيل عند الله. وقيل {خَيْراً مِنْهُمْ} أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا بالتحريك ومسخرا وسخرا بالضم.
وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين.
وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وقد تقدم. وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة بفتح الخاء يسخر من الناس.
الثانية: واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه إلى مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ أصحابه مجالسهم منه، فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لاحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس! فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة! يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت.
وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول السورة استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير.
وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الامة. فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و{قَوْمٌ} في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد.
وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا، وقد مضى في البقرة بيانه.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} أفرد النساء بالذكر لان السخرية منهن أكثر. وقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة- وهو ثوب أبيض، ومثلها السب- وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: انظري! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما.
وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عيرن أم سلمة بالقصر.
وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة.
وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد». فأنزل الله هذه الآية.
الرابعة: في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا، فقال: «ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا. قالت فقلت: يا رسول الله، إن صفية امرأة- وقالت بيدها- هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال: لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج».
وفي البخاري عن عبد الله بن زمعة قال: نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال: «لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق. قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فيه ثلاث مسائل: قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} اللمز: العيب، وقد مضى في براءة عند قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ} [التوبة: 58].
وقال الطبري اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا، لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ: {ولا تلمزوا} بالضم.
وفي قوله: {أَنْفُسَكُمْ} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وقال بكر بن عبد الله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه» وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلا ورعا *** أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله *** عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا *** فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا *** ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} النبز بالتحريك اللقب، والجمع الانباز. والنبز بالتسكين المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا.
وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ}. قال: هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة.
وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ} قال: قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ}. فهذا قول. وقول ثان- قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة.
وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق. وقاله مجاهد والحسن أيضا. {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ} أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قاله ابن زيد.
وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق.
وفي الصحيح: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه». فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق، وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنازعه رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه» يعني بالتقوى، ونزلت {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ}.
وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة».
الثالثة: وقع من ذلك مستثنى من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الامة واتفق على قوله أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة، لأنه صحف {خرزة} فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لأنه وقع في طين. ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر أسم أبي في حل، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله، أن كل ما يكرهه الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الاذاية. والله أعلم. قلت- وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من الجامع الصحيح في باب: ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل قال: وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يقول ذو اليدين» قال أبو عبد الله بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك.
الزمخشري: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه». ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكنى فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب. قلت- فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع- يعني عمر- يقبل الحجر. في رواية الأصيلع. قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} قيل: إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما، فقالا له: انطلق فاطلب لنا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما وإداما، فذهب فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك» وكان أسامة خازن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شيئ، فرجع إليهما فأخبرهما، فقالا: قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا، فقالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شي، فرآهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا: يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال: ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة» فنزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير.
الثانية: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قول تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب.
وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء». وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت.
الثالثة: للظن حالتان: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الادلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانية: أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة: «إياكم والظن» فإن هذا لا حجة فيه، لان الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وقوله: {لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور: 12]، وقوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا». وقال: «إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض» خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح، قاله المهدوي.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما} {ولا تحسسوا} بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقال الأخفش: ليس تبعد إحداهما من الأخرى، لان التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس بالحاء طلب الاخبار والبحث عنها.
وقيل: إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق: أنه بالحاء تطلبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره، قاله ثعلب. والأول أعرف. جسست الاخبار وتجسستها أي تفحصت عنها، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله.
وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معدي يكرب عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم». وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته».
وقال عبد الرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى!؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم.
وقال أبو قلابة: حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك! قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبد الرحمن يعسان، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر: فمن هذه منك؟ قال امرأتي، قال فما في هذا القدح؟ قال ماء زلال، فقال للمرأة: وما الذي تغنين؟ فقالت:
تطاول هذا الليل واسود جانبه *** وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه *** لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني *** وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين! قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا}. قال صدقت. قلت: لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل، لان عمر لا يقر على الزنى، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها، وأنها قالتها في مغيبه عنها. والله أعلم.
وقال عمرو بن دينار: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها، فسقط من كمه كيس فيه دنانير، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا، فجاء إلى أمه فقال: أخبريني ما كان عمل أختي؟ فقالت: قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها! فلم يزل بها حتى قالت له: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت! الخامسة: قوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} نهى عز وجل عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته». يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والافك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الافك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال: قال لي معاوية- يعني ابن قرة-: لو مر بك رجل أقطع، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة: فذكرته لابي إسحاق فقال صدق.
وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فسمع نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: «أين فلان وفلان؟» فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال: «انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا نبي الله ومن يأكل من هذا! قال: «فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها».
السادسة: قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} مثل الله الغيبة بأكل الميتة، لان الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه.
وقال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لان أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس.
وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لان عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما صام من ظل يأكل لحوم الناس». فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا.
وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». وعن المستورد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة». وقد تقدم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين». وقوله للرجلين: «مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما»
وقال أبو قلابة الرقاشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال: قام رجل من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأوا في قيامه عجزا فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا! فقال: «أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه». وعن سفيان الثوري قال: أدنى الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط، إلا أنه يكره ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وذكر الناس فإنه داء، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا.
وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني! فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
السابعة: ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا: ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا: لا تكون الغيبة إلا في الخلق والخلق والحسب. والغيبة في الخلق أشد، لان من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية: إنها امرأة قصيرة، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته». خرجه أبو داود.
وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء، لان العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين، لان عيب الدين أعظم العيب، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قوله عليه السلام: «إذا قلت في أخيك ما يكره فقد اغتبته...» الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصا. وكفى بعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه». فعم كل عرض، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثامنة: لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقالت فرقة: هي مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته». خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». وقد تقدم هذا المعنى في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ} [آل عمران: 169]. وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة: ما أطول ذيلها! فقالت لها عائشة: لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: إنما الغيبة في المال والبدن، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ} [النور: 13]. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال». وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: إنها مظلمة، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال كفارتها أن يستغفر لصاحبها، لان قوله مظلمة تثبت ظلامة المظلوم، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه». وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، وراي أنه لا يحل ما حرم الله عليه، منهم سعيد بن المسيب قال: لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين: يا أبا بكر، هذا رجل سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده، فقال: إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حرم الغيبة عليه، وما كنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على التحليل، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى: {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشوري: 40].
التاسعة: ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر، فإن في الخبر من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس». فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب الهوى، والفاسق المعلن، والامام الجائر.
وقال الحسن لما مات الحجاج: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته- وفي رواية شينه- فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات! حال دون ذلك السيف والسوط.
وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال: ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول: فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة. وعلماء الامة على ذلك مجمعة.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك: «لصاحب الحق مقال». وقال: «مطل الغني ظلم» وقال: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته». ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم فخذي». فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لأنه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه». فهذا جائز، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله.
العاشرة: قول تعالى: {مَيْتاً} وقرئ: {ميتا} وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} وفية وجهان: أحدهما- فكرهتم أكل الميتة فكذلك فأكرهوا الغيبة، روي معناه عن مجاهد.
الثاني- فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس.
وقال الفراء: أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه.
وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي أكرهوه. {اتَّقُوا اللَّهَ} عطف عليه.
وقيل: عطف على قوله: {اجْتَنِبُوا} {وَلا تَجَسَّسُوا}. {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.


{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند، ذكره أبو داود في المراسيل، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً} الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة.
وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من الذاكر فلانة؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انظر في وجوه القوم فنظر، فقال: ما رأيت؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى» فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ} [المجادلة: 11] الآية. قال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم.
وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا.
وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره.
وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى.
وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب بمكة فقال: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. خرجه من حديث عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب آداب النفوس وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني أو حدثنا من شهد خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟- قالوا نعم قال- ليبلغ الشاهد الغائب». وفية عن أبو مالك الأشعري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم». ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره:
الناس من جهة التمثيل أكفاء *** أبوهم آدم والام حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة *** وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب *** يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** وللرجال على الافعال سيماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
الثانية: بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، وكذلك في أول سورة النساء. ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه، فلعله هذا القسم، قاله ابن العربي.
الثالثة: خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا، وخلق لهم منها التعارف، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها، فصار كل أحد يحوز نسبه، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه، بقوله للعربي: يا عجمي، وللعجمي: يا عربي، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى.
الرابعة: ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الام، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 21]. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]. وقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} [القيامة: 37]. فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ} [الطارق: 6] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الأخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه، حسب ما تقدم بيانه في آخر الشورى. وقد قال في قصة نوح {فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لان الالتقاء لا يكون إلا من اثنين، فلا ينكر أن يكون {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]. وقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 21] ويريد ماءين. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا} الشعوب رءوس القبائل، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، واحدها شعب بفتح الشين، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد، يقال شعبته إذا جمعته، ومنه المشعب بكسر الميم وهو الأشفى، لأنه يجمع به ويشعب. قال:
فكاب على حر الجبين ومتق *** بمدرية كأنه ذلق مشعب
وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فاما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. قال الجوهري: الشعب: ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. والشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث أن رجلا من الشعوب أسلم، فإنه يعني من العجم. والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس: الشعوب الجمهور، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ.
وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقاله قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي، والثاني الماوردي. قال الشاعر:
رأيت سعودا من شعوب كثيرة *** فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك
وقال آخر:
قبائل من شعوب ليس فيهم *** كريم قد يعد ولا نجيب
وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان.
وقيل: إن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب.
وقال ابن عباس في رواية: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. قال القشيري: وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك، والقبائل من العرب. الماوردي: ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الأنساب. قال الشاعر:
وتفرقوا شعبا فكل جزيرة *** فيها أمير المؤمنين ومنبر
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه: الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ.
وقيل: الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة، وقد نظمها بعض الأدباء فقال:
اقصد الشعب فهو أكثر حي *** عددا في الحواء ثم القبيلة
ثم تتلوها العمارة ثم ال *** بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن *** هي في جنب ما ذكرناه قليله
وقال آخر:
قبيلة قبلها شعب وبعدهما *** عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته *** ولا سداد لسهم ماله قذذ
السادسة: قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} وقد تقدم في سورة الزخرف عند قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقرئ: {أن} بالفتح. كأنه قيل: لم لا يتفاخر بالأنساب؟ قيل: لان أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم.
وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الحسب المال والكرم التقوى». قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام: «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله». والتقوى معناها مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع.
وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي واضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون».
وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا». وأعرض في كل عطفيه.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهارا غير سر يقول: «إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين». وعن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكرم الناس؟
فقال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فأكرمهم عند اللّه أتقاهم» فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: «عن معادن العرب؟
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» وأنشدوا في ذلك:
ما يصنع العبد بعزّ الغنى *** والعزّ كلّ العزّ للمتّقى
من عرف اللّه فلم تفنه *** معرفة اللّه فذاك الشّقى
السابعة: ذكر الطبري حدّثني عمر بن محمد قال حدّثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدّثنا مندل بن على عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال: تزوّج رجل من الأنصار امرأة فطعن عليها في حسبها، فقال الرجل: إنى لم أتزوجها لحسبها إنما تزوّجتها لدينها وخلقها، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «ما يضرّك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة». ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللّوم لوم الجاهلية».
وقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «إنى لأرجو أن أكون أخشاكم للّه وأعلمكم بما أتقى» ولذلك كان أكرم البشر على اللّه تعالى. قال ابن العربي: وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبد اللّه عن مالك: يتزوج المولى العربية، واحتج بهذه الآية.
وقال أبو حنيفة والشافعي:
يراعى الحسب والمال.
وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة- وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم- تبنّى سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة ابن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود.
قلت: وأخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدلّ على جواز نكاح الموالي العربية، وإنما تراعى الكفاءة في الدّين.
والديل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ عليه رجل فقال: «ما تقولون في هذا»؟ فقالوا: حرّى إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع وإن قال أن يسمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: «ما تقولون في هذا» قالوا: حرىّ إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا».
وقال صلى اللّه عليه وسلم: «تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها- وفي رواية- ولحسبها فعليك بذات الدّين تربت يداك» وقد خطب سلمان إلى أبى بكر أبنته فأجابه، وخطب إلى عمرا بنته فالتوى عليه، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها، فقال بلال: يا رسول اللّه، ماذا لقيت من بنى البكير، خطبت إليهم أختهم فمنعونى وآذوني، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أجلال جلال، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا: ماذا لقينا بك من سببك؟ فقالت أختهم: أمرى بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزوّجوها.
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في أبى هند حين حجمه: «أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه». وهو مولى بنى بياضة.
وروى الدّارقطنيّ من حديث الزّهرى عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بنى بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى من صوّر اللّه الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبى هند».
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أنكحوه وأنكحوا إليه».
قال القشيري أبو نصر: وقد يعتبرا لنسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوّة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقىّ المؤمن أفضل من الفاجر النسيب، فإن كانا تقيّين فحينئذ يقدّم النسيب منهما، كما يقدّم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5